اتخذت الحكومة المصرية قرارها بتصفية المؤسسات الصحافية القومية، بإعلانها رسميا تحويل الكثير من الإصدارات الورقية إلى رقمية، لوقف نزيف الخسائر المتلاحقة، بعد عجز القائمين على إدارتها في تحقيق الحد الأدنى من المكاسب، أو توفير نفقات طباعتها.
القاهرة – أعلنت الهيئة الوطنية للصحافة السبت، أنها تعكف على الانتهاء من اللمسات الأخيرة لمشروع تحويل بعض المؤسسات الصحافية القومية، إلى رقمية، في مشروع يتم تنفيذه للمرة الأولى بمشاركة وزارة الاتصالات وشركات متخصصة في تكنولوجيا المعلومات، بما يسهم في إيجاد حلول لأزمات الصحافة الورقية وتقليل خسائرها.
تمثل الخطوة، بادرة تنفيذ قانون الصحافة والإعلام الذي أقره مجلس النواب في يوليو من العام الماضي، ومنح الحق للحكومة، والجهات المسؤولة عن تنظيم عمل وإدارة المؤسسات الصحافية، بدمج وإلغاء إصدارات ومؤسسات ترى الدولة أنها لم تعد لها جدوى، مع الاحتفاظ بالنسخ الورقية للإصدارات الأم.
وعلمت “العرب” أنه تم إبلاغ عدد من رؤساء تحرير إصدارات صحافية ورقية: الأهرام والأخبار والجمهورية وروز اليوسف ودار المعارف، بأن وقف طباعة صحفهم أو مجلاتهم مسألة وقت ولا تراجع عن ذلك، على أن يتحول الإصدار الورقي إلى إلكتروني، ما تسبب في تذمر العديد من الصحافيين والعاملين بهذه الإصدارات.
ويقود هذا التحرك إلى ارتفاع معدلات البطالة المقنعة في إدارات، مثل التحرير والمطابع والإخراج الصحافي والتوزيع والاشتراكات والإعلانات، ما يشكل عبئا إضافيا على موازنة كل مؤسسة، لأنها ستكون ملزمة بدفع رواتب موظفين دون استفادة حقيقية منهم.
ويخشى صحافيون وعمال أن يكون تحويل الإصدارات الخاسرة إلى رقمية، مقدمة لتسريح العاملين فيها بالحصول على معاش مبكر، في ظل تلويح سابق من مسؤولين عن تنظيم المؤسسات القومية بحتمية خفض نسبة العمالة، كأحد الحلول لمواجهة نزيف الخسائر.
وأكد مصدر إعلامي على صلة بخطة تحويل الإصدارات الورقية إلى إلكترونية لـ”العرب”، أن القرار سوف يبدأ تطبيقه بشكل تدريجي قريبا على الإصدارات الأسبوعية التي تتعرض لخسائر فادحة، ولا تغطي نفقات التشغيل، وأخفق مسؤولوها في زيادة مواردها.
وأضاف المصدر، وقد فضّل عدم نشر اسمه، أن الإصدارات الورقية الأسبوعية التي تحقق مكاسب معقولة لن يطبق عليها القرار، حتى لو كان توزيعها أسبوعيا في السوق محدودا، لأنها تجلب إعلانات بتعاقدات سنوية تسهم في اقتصاد المؤسسة عموما.
مشكلة القائمين على إدارة وتنظيم الصحف في مصر أنهم لا يدركون خطورة استمرارها كنشرة تتحدث فقط بلسان الحكومة
وقال “سوف تكون لكل مؤسسة صحافية بوابة إلكترونية واحدة، تندرج تحتها كل الإصدارات التي تحولت من ورقية إلى إلكترونية، ولن يكون لكل إصدار موقع إلكتروني بالمعنى الحرفي، ولن يكون هناك تحديث مستمر للأخبار والموضوعات إلا عبر البوابة الرئيسية للمؤسسة، وأيقونة الإصدار سوف تكون خاصة بنشر عدد الصحيفة وموضوعاتها في حدود الخط التحريري المرسوم لها”.
وأفاد كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، بتصريح تلفزيوني حاول من خلاله تخفيف وطأة الصدمة وطمأنة العاملين في المؤسسات القومية، قائلا “المشروع الجديد عبارة عن نظام متكامل لتدعيم الصحافة الورقية وتوسيع انتشارها وليس القضاء عليها، وسيتضمن نظاما جديدا للإعلانات الرقمية، وسيتم تعظيم القيمة النسبية لكل مؤسسة صحافية وتقديمها للرأي العام في الداخل والخارج بطريقة مميزة”.
وأشار مراقبون إلى أن مشكلة القائمين على إدارة وتنظيم الصحف في مصر، هي “أنهم لا يدركون خطورة استمرارها كنشرة تتحدث فقط بلسان الحكومة، ومهما تبدلت سياسات النشر فيها، من ورقية إلى رقمية، فلن تتحسن أحوالها، أو تنتهي أزماتها قبل أن تتحول من ناقل باسم الحومة (الحي) إلى متحدث بلسان الشارع، أو على الأقل توازن بين الاثنين”.
وثمة أزمة أخرى ترتبط بغياب الكوادر المؤهلة على إدارة صحيفة رقمية، والكثير من الصحافيين اعتادوا التعامل مع النمط التقليدي للصحافة بـ”الورقة والقلم”، ويصعب تغيير أفكارهم وثقافتهم النمطية التي اكتسبوها خلال سنين طويلة، وإقناعهم بأن ما كان يُنشر في الصحافة الورقية لا يجذب القارئ الإلكتروني.
ومعلوم أنه تم إغلاق البوابات الإلكترونية للصحف الحكومية الثلاث الكبرى (الأهرام والأخبار والجمهورية) منذ ثلاثة أشهر بعد اختراق هاكرز تركي لموقع صحيفة “الأهرام”، وقيل وقتها أنه يتم العمل على توفير وسائل حمائية لمنع تكرار الاختراق، وأثار طول فترة التأمين تكهنات حول مدى قدرة العقلية التي تدير هذه المؤسسات على إدارة صحيفة رقمية ناجحة.
وترى الهيئة الوطنية للصحافة أن المعضلة ليست في تحويل الإصدار من ورقي إلى إلكتروني، بل في العنصر البشري نفسه، ما دفعها إلى الإعلان عن برنامج تدريب للصحافيين في الإصدارات المقرر تغيير مسارها إلى رقمية.
ويقول متابعون إن اتخاذ الحكومة خطوة جريئة مثل التصفية غير المباشرة للصحف القومية، يقود إلى اعتراف ضمني بعدم القدرة على إدارتها وانتشالها من أزماتها، وحمل القرار في مجمله تراجعا في نظرة السلطة للصحافة الحكومية عن أنها المنبر الإعلامي الذي يمكن عبره توصيل رسائل تحمل طابعا سياسيا.
ويبدو أن الحكومة لم تعد ترى في بعض الصحف القومية ظهيرا سياسيا لها، لأن كل المنصات الإعلامية تؤدي تقريبا نفس الدور، وبالتالي لا داعي لتمييز الإصدارات الحكومية وتقديم المزيد من الدعم المادي.
ورأى مجدي بدر أستاذ الصحافة والتلفزيون بالمعهد العالي للإعلام في القاهرة، أن هذه التطورات رسالة واضحة على أن الحكومة أصبحت تعتبرها عبئا ثقيلا عليها.
وأضاف لـ”العرب”، أن إقصاء إصدارات صحافية قومية من المشهد ارتبط بزيادة ولاء الصحافة الخاصة للحكومة، لأن الحكومة لم تكن تغامر بهذه الخطوة لولا أنها وجدت منصات بديلة تقوم بالدور ذاته الذي كانت تؤديه الصحافة الرسمية، لذلك رأت أنه بعد تحقيق الاصطفاف الصحافي خلفها، لا داعي لتعدد المصطفّين وحان وقت تقليم أظافر الخاسرين منهم.
وعلمت “العرب” أن الخطوة التالية لتحويل إصدارات ورقية إلى رقمية هي إجراء حركة تغييرات واسعة في رؤساء مجالس الإدارات والتحرير، ووضع شخصية اقتصادية على رأس إدارة كل مؤسسة، ولن تكون لها علاقة من قريب أو بعيد بالخط والمضمون التحريري.
ويعني ذلك أن سياسة الحكومة في التعامل مع الصحف القومية سوف تكون اقتصادية، من حيث إدارة الأصول وتعظيم الموارد وإنشاء مشروعات باسمها، أما الشأن التحريري فلا يشغلها كثيرا.
عن صحيفة العرب